نور الشمس
عدد الرسائل : 1153 الاوسمة : تاريخ التسجيل : 29/03/2008
| موضوع: المَبَرَّةُ العُظْمَى... من المدينة المنورة إلى أهلها الخميس مايو 22, 2008 5:56 pm | |
| الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا رسول الله وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحابته الغر الميامين ومن تبعهم إلى يوم الدين, وبعد:
لا يخفى على أحد ممن له صلة بالمدينة المنورة بِرَّ هذه المدينة الطاهرة إلى أهلها, وكل من قرأ أدنى كتاب عن المدينة علم ذلك علم اليقين, ومن قرأ عن أسمائها اتضح له ذلك في اسمها (البَارَّة) و (البَرَّة), وحيث أن بِرَّ المدينة على نوعين, الأول: بِرَّها إلى أهلها خاصة ويشمل كذلك نزلائها, والثاني: بِرَّها إلى الناس عامة. فإننا سنعرض هنا خلاصة يسيرة عن النوع الأول من بِرَّ هذه المدينة المباركة. وهو نقلاً مما كتبته سابقاً في بحث خاص عن أسماء المدينة المنورة والتي منها الاسمان المذكوران.
بِرّ المدينة وإحسانها إلى أهلها يأتي من عدة وجوده, منها الدُنْيَوِي, ومنها الأُخْرَوِي. وبيان ذلك كما يلي:
أولاً: بِرَّها إلى أهلها دنيوياً: مما يعتبر من بِرّ المدينة إلى أهلها ونزلائها ويضاف إليهم زوارها دنيوياً ما يلي:
1. كثرة المياه في آبارها كبئر سيدنا عثمان رضي الله تعالى عنه وبئر العِهْن وبئر غَرْس التي كانت مضرب مثل, وعيونها كالعين الزرقاء التي كانت تعتبر مصدر الماء الرئيسي لأهل المدينة منذ القرن الأول الهجري إلى عهد قريب, حيث ظهر مشروع تحلية مياه البحر, والذي أغنى أهل المدينة عن تلك العين التي أصبحت في حكم التاريخ فجفت وتركت. وكذلك كثرة مسايل أوديتها المباركة, كوادي العقيق المبارك ووادي قناة (المشهور بسيل سيدنا حمزة رضي الله تعالى عنه) ووادي بطحان وغيرها.
2. عذوبة مائها التي اشتهرت به منذ القدم, فماء عروة كانت ترسل من المدينة إلى الخليفة العباسي هارون الرشيد في بغداد, وكان الناس يتهادونها لعذوبتها. ومن ذلك ماء بئر غرس التي هي على عين من عيون الجنة كما في حديث إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((رأيت الليلة أني أصبحت على بئر من الجنة, فأصبح على بئر غرس)) رواه ابن سعد في طبقاته. وغيرها من الآبار والعيون.
3. صلاح هوائها, وسعة فنائها, وحلول ترابها وغبارها محل الدواء للداء, وقد ورد في ذلك حديث السيدة عائشة رضي الله عنها, أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول للمريض: ((باسم الله, تربة أرضنا, بريقة بعضنا, يشفى سقيمنا, بإذن ربنا)) رواه البخاري ومسلم. وأما في غبارها فحديث سيدنا سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه, أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((والذي نفسي بيده, إن غبارها شفاء من كل داء)) رواه رزين.
4. أمنها وأمانها, الذي طمأن أهلها, ولا يخيف أهلها أحد إلا أخافه الله عز وجل, ولا يظلهم إلا مبعد عن رحمة الله مطرود, ملعون من الله ورسوله والملائكة والناس أجمعين, ولا يقبل له عمل حتى يتوب من ذلك, فعن السائب بن خلاد الأنصاري رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((من أخاف أهل المدينة أخافه الله عز وجل, وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين, لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا)) رواه أحمد والنسائي في الكبرى برجال الصحيح. وعن سيدنا عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه, عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((اللهم من ظلم أهل المدينة وأخافهم فأخفه, وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين, لا يقبل منه صرف ولا عدل)) رواه الطبراني في الكبير والأوسط, والضياء في المختارة برجال الصحيح, ورواه البخاري في تاريخه مختصرا برجال ثقات. ومن أخاف أهلها أخاف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, فعن سيدنا جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من أخاف أهل فقد أخاف ما بين جنبي)) رواه أحمد وابن أبي شيبة برجال الصحيح. ومن آذى أهلها وأراد بهم سوء أذابه الله في النار, فعن سيدنا سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((ولا يريد أحد أهل المدينة بسوء, إلا أذابه الله في النار ذوب الرصاص, أو ذوب الملح في الماء)) رواه مسلم.
5. خصوبة أرضها, مما أدى إلى كثرة بساتينها وحدائقها, إضافة إلى البركة النازلة في كل أمرها لاسيما في نخلها وثمرها, وفي حديث سيدنا أبو هريرة رضي الله تعالى عنه, كان الناس إذا رأوا أول الثمر جاءوا به إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فإذا أخذه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((اللهم بارك لنا في ثمرنا...)) الحديث, رواه مسلم.
6. تمرها الذي جعل الله فيه الشفاء والدواء, فعن السيدة عائشة رضي الله تعالى عنها وأرضاها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((إن في تمر العالية شفاء –أو قال: ترياقاً- أول البكرة على الريق)) رواه أحمد في مسنده. وفي رواية عند مسلم أنه قال: ((إن في عجوة العالية شفاء –أو قال: ترياقاً- أول البكرة)). ونجد هنا تخصيص تمر العجوة, الذي تميزت المدينة به عن غيرها, وللعجوة فضائل ومميزات أخرى منها أنها من الجنة, فعن سيدنا أبو هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((العجوة من الجنة, وهي شفاء من السم)) رواه أحمد والترمذي وصححه والنسائي وابن ماجه والدارمي والطيالسي وأبو يعلى. وكما جعل الله تعالى في تمرها الشفاء, فإنه سبحانه وتعالى جعلها حرزاً من السم والسحر, فعن سيدنا سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((من تصبح بسبعِ تمراتٍ عجوة, لم يضره ذلك اليوم سم ولا سحر)) متفق عليه. وفي رواية عند مسلم, أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((من أكل سبع تمرات مما بين لابتيها حين يصبح, لم يضره سم حتى يمسي)). لابتيها: أي حرتيها, الحرة الشرقية والحرة الغربية. ومن هاتين الروايتين يظهر أن من صبح على أكل تمر المدينة لم يصبه سم ذلك اليوم حتى يمسي, وأما من صبح على العجوة فتزيد على سائر تمور المدينة بالنفع من السحر.
7. حلاوة عنبها وتينها, وخضرة بقولها, ونضارة بساتينها ومزارعها, وكثرة حصادها. كل ذلك يعتبر من بِرّ البلاد بأهلها, فهي بمنزلة الآباء والأمهات لأبنائهم, وهذا نذر يسير من إحسان المدينة و بِرّها الدنيوي إلى أهلها.
ثانيا: بِرّها إلى أهلها أخروياً: وأما بِرّ المدينة بأهلها أخروياً فهو مما لا يستطيع الجامع جمعه لكثرته, ومما يعتبر من بِرّها أخروياً ما يلي:
1. من بِرّ هذه البلاد بأهلها ونزلائها وزوارها أيضاً أن من صلى في مسجدها (مسجد سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم) أربعين صلاة متواصلة, لا تفوته منها صلاة, أكرمه الله بعدة مكرمات, فبراءة من النار, وبراءة من النفاق, ونجاة من العذاب, وما أعظمها من مكرمات, وما أجلها من مبرات, فعن سيدنا أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه, عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((من صلى في مسجدي هذا أربعين صلاة, لا تفوته صلاة, كُتبت له براءة من النار, ونجاة من العذاب, وبَرئ من النفاق)) رواه أحمد والطبراني في الأوسط, ورجاله ثقات.
2. ومن بِرّها أن من أتي مسجدها (مسجد سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم) ليعلم أو يتعلم خيراً كان له من الأجر كالمجاهد في سبيل الله تعالى, وما أعظمها من درجة عالية سامية, فعن سيدنا أبو هريرة رضي الله تعالى عنه, قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((من جاء مسجدي هذا –يعني مسجد المدينة- لم يأته إلا لخير يُعلِّمه أو يتعلمه, فهو بمنزلة المجاهد في سبيل الله, ومن جاءه لغير ذلك, فهو بمنزلة الرجل ينظر إلى متاع غيره)) رواه أحمد وابن أبي شيبة وابن ماجه وابن حبان وأبو يعلى, وصححه الحاكم على شرطهما.
3. ومن بِرّها أن من يخرج من بيته قاصداً مسجدها (مسجد سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم) لصلاة أو تعليم أو نحو ذلك, أكرمه الله عز وجل بكل خطوة يخطوها حسنة, ويحط عنه سيئة, فعن سيدنا أبي هريرة رضي الله تعالى عنه, عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((مِن حين يخرج أحدكم من بيته إلى مسجدي, فرِجْلٌ تكتب حسنة, وأخرى تمحو سيئة)) رواه أحمد والنسائي والحاكم وصححه وأقره الذهبي.
4. ومن بِرّها أن من أتى مسجدها (مسجد سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم) للصلاة فيه كان له كأجر حجة كاملة, ومن أتى مسجد قباء للصلاة فيه كان له كأجر عمرة تامة, فعن سيدنا سهل بن حنيف رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((من تطهر في بيته, ثم اتى مسجد قباء, فصلى فيه صلاة, كان له كأجر عمرة)) رواه أحمد والنسائي وابن ماجه وابن أبي شيبة والحاكم وصححه, ورواه البخاري في تاريخه والبيهقي في شعب الايمان بزيادة ((ومن خرج على طهر لا يريد إلا مسجدي هذا –يريد مسجد المدينة- ليصلي فيه, كانت له بمنزلة حجة)).
5. ومن بِرّها وإحسانها, بل من سرها, مضاعفة الصلاة في مسجدها, وفضل بعض العلماء الصلاة في الحرم النبوي على الصلاة في الحرم المكي, ومنهم الإمام السيد صفي الدين أحمد القُشَاشِي المدني قدس الله سره, وذكر ذلك في كتابه (الدرة الثمينة فيما لزائر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة) في الفصل الأول أثناء حديثه عن سر المدينة, وهو بدوره قام بالربط بين حديث المضاعفة إلى مائة ألف وحديث مضاعفة البركة ضعفي ما في مكة, ومما قاله في كتابه المذكور: (لقوله صلى الله عليه وسلم ((ضعفي ما جعلت بمكة)) والوارد بمكة المشرفة في المضاعفة إلى مائة ألف فيكون هنا بمائتي ألف والله يضاعف لمن يشاء...) اهـ. وقد أُخْبِرنا عن محدث الحرمين عالم الحجاز السيد محمد بن علوي المالكي نفعنا الله بعلومه, وهو من علماء المالكية في هذا الزمان, أنه تحدث عن فضل الصلاة في المسجد النبوي وعدَّ لها من الأضعاف ثمان مائة ألف ضعف, والله يضاعف لمن يشاء, وما ذلك إلا مبرّة منها إلى أهلها وزوارها. ولا أريد التوسع في هذه المسألة فقد تحدثت عنها بشكل أكبر في بحث خاص عن سر المدينة المنورة.
6. كثرة أماكن استجابة الدعاء فيها, ومنها: الروضة الشريفة عند اسطوانة السيدة عائشة رضي الله عنها, واسطوانة التوبة (أبي لبابة), وكذلك الاسطوانة المُخَلَّقَة (الحنَّانة), وعند المحراب النبوي الشريف, ومحراب تهجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويقع في الجهة الجنوبية من الحجرة النبوية الشريفة عند دكة أهل الصفة, تحت صورة المدينة المنورة القديمة, ومن أماكن استجابة الدعاء أيضا مسجد الإجابة, والمساجد السبعة (مساجد الفتح), ومسجد بني ظفر عند مقر هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وكهف بني حرام, وغير ذلك من الأماكن الكثيرة التي صلى بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ودعا فيها.
7. تقلب جوها ومناخها وشدته, فبردها قارص يخترق العظام وكما يقال (بردها من الأرض), وأما حرها فشديد إضافة إلى السموم, وذكرنا ذلك ضمن برها بأهلها, ذلك لأن مناخها لا يصبر عليه سوى أهل الصبر, وبذلك تكون قد جبرت أهلها على الصبر, لينالوا به الفضل, ويحظوا بشفاعة خاصة من سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, فعن سيدنا عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((لا يصبر على لأوائها وشدتها أحد إلا كنت له شهيدا أو شفيعا يوم القيامة)) رواه مسلم.
8. نفيها للخبث والذنوب, وضامر الشر لا يمكث فيها, فعن سيدنا جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((المدينة كالكير تنفي الخبث كما ينفي الكير خبث الحديد)) رواه ابن أبي شيبة وأحمد بإسناد حسن. وعن سيدنا زيد بن ثابت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((إنها طيبة تنفي الذنوب كما تنفي النار خبث الفضة)) رواه البخاري.
9. ومن أعظم بِرّها بأهلها أن جُعِل عالمها أعلم من علماء غيرها من البلاد, فعن سيدنا أبو هريرة رضي الله تعالى عنه, عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((يوشك أن يضرب الناس أكباد الابل, يطلبون العلم, فلا يجدون أحداً أعلم من عالم المدينة)) رواه أحمد والترمذي وابن حبان والحاكم وصححوه.
10. وأما المَبَرَّةُ العُظْمَى والمكرمة الكبرى, التي اشترك فيها الزائر والمقيم, والخاصة والعامة, هو كونها دار الهجرة المحمدية, ومحل ظهور أنوار البركات النبوية, ومنبع فيض بحار الأسرار, وإشراق الأنوار, مهبط الملائكة المقربين, ومظهر هذا الدين, دار الأحباب الكرام, وموطن خصه الله سبحانه بالإجلال والإكرام, من نزل بجنابها حفته الخيرات, ومن حل ببابها شملته الأنوار والبركات, وهذه الأمور هي أعظم المَبَرَّات وأجل الحسنات.
فما أطيبها من بلدة برت بأهلها, وأحسنت إليهم, واستهم وآنستهم, فيا أهلها وسكانها وأحبابها أما يحق لنا رد الجميل لمن أكرمتنا وأحسنت إلينا, فطوبى لمن كان لها بار, وأدى حق الجوار, من أدب واحترام, وبعد عن فسوق وفجور ومعاصي وآثام, فأكرم بهناء العيش, وطيب الرزق, حتى تأتيه المنية وهي عنه راض, فرضاها من رضا سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, فهو منها وهي منه, ويفوز بذلك الدنيا والآخرة, ويكرم بشفاعة من سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم... اللهم أكرمنا برد هذا الجميل, واجعلنا من أهلها المخلصين المحبين.
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ومولانا وحبيبنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين آمين | |
|